تُعدُّ مقدونيا إحدى دول منطقة البلقان، وكانت في السابق إحدى دول ما كان يطلق عليها يوغسلافيا السابقة، وقد انفردت مقدونيا مع سلوفانيا بانفصالها عن يوغوسلافيا بسلام ودون حروب، حيث وقَّعت حكومتها اتفاقًا أمَّنت به خروج الجيش اليوغوسلافي من قواعده بمدن مقدونيا بهدوء وسلام لتجنيب البلاد دفع مقابل باهظ للاستقلال.
غير أن الهدوء الذي صاحب الاستقلال لم يدم، حيث اشتعل صراع مسلح بين المسلمين الألبان الذين يشغلون ما يزيد على 70% من عدد سكان البلاد البالغ تعدادهم مليون نسمة 2,6 وبين حكومة سكوبيا التي يهيمن عليها النصارى، وانتهت الصراعات بتوقيع اتفاقية اوخريد التي أنهت أشهرًا من الصراع المسلح في سكوبيا، وأعادت بعض الحقوق الدستورية لمسلمي ألبانيا، الذين عانَوْا طويلاً من سياسات التهميش والتمييز ضدهم.
ويتركز المسلمون في جميع أنحاء مقدونيا، لاسيما في المدن الرئيسة، مثل العاصمة سكوبيا وتيتوفو وتيستوفا وكموتا وغوستيفار. وتدير المشيخة الإسلامية العليا ودار الإفتاء شئون المسلمين في مقدونيا الذين يحرصون على التمسك بهويتهم الدينية ويعتبرونها السبيل الوحيد للحفاظ على كيانهم، ويستغل ألبان مقدونيا مناسبة شهر رمضان للتأكيد على وحدتهم وقوتهم ورفضهم عودة عقارب الساعة للوراء ومعها المعاناة من الفقر والتهميش، ومعاملتهم كمواطنين درجة ثانية.
وعن الطقوس والعادات المرتبطة بشهر رمضان في مقدونيا التقت مؤسسة "الإسلام اليوم" بالشيخ د. سليمان أفندي رجبي، مفتي مقدونيا ورئيس المشيخة الإسلامية العليا بالعاصمة سكوبيا..
كيف تقضون شهر رمضان في مقدونيا؟ وما العادات المرتبطة بهذا الشهر الفضيل؟
شهر رمضان من الشهور الخاصة والمؤثرة جدًّا في حياة ألبان مقدونيا؛ حيث تسود أجواء روحانية شديدة، ويُقبل فيه المسلمون على تعمير المساجد، وفي مقدمتها مسجد مصطفى باشا في العاصمة سكوبيا، حيث يُقبل عدد كبير على أداء الصلاة في المسجد خلال الصلوات الخمس، خصوصًا صلاتَيْ الفجر والعشاء وكذلك التراويح، بل إن الأمر اللافت يتمثل في الحضور النسائي المكثف بالمساجد، وهي ظاهرة غابت عن مقدونيا لأكثر من 70 عامًا، وتتغير العادات اليومية بشكل جذري، حيث يتم ترتيب كل شيء وفقاً للأجواء الروحانية للشهر الكريم. ومن الأمور اللافتة في شهر رمضان تزايُد أعداد النساء اللائي يرتدين الحجاب، لدرجة أن الفتيات غير الملتزمات يرتدين ملابس محتشمة احتراماً لقدسية هذا الشهر، وَتَزْدَانُ شوارع المناطق الإسلامية بالزينة والأضواء، ويطلق الأطفال المدافع الصغيرة إيذاناً ببدء مرحلة الإفطار.
فيما يتعلق بالسحور.. هل هناك طقوس خاصة؟ وهل ظاهرة المسحراتي موجودة؟
تعرفون أن العثمانيين هم مَن فتحوا منطقة البلقان ونشروا الدين الحنيف في أرجائها، لذا نرى التأثر بالعادات التركية جليًّا في مقدونيا، ومن هذه العادات ارتداء المسحراتي زيًّا خاصًّا به أثناء أداء مهمته، ويمتاز الدف الذي يستخدمه بحجمه الكبير، حتى يستطيع إيقاظ أكبر عدد من النائمين لتناول طعام السحور وأداء صلاة الفجر. ومن اللافت في صلوات الفجر والعشاء قيام الآباء باصطحاب أبنائهم الصغار لأداء الصلاة، بل إنهم يدربون أبناءهم الصغار على الصوم بشكل تدريجي حتى يستطيعوا القيام به وهم في سن صغيرة نسبيًّا. ومن اللافت أيضاً خلال شهر رمضان الاحتفاء بالقرآن الكريم وتنظيم حلقات موسعة في المساجد لتلاوة القرآن الكريم يتناوب عليها الصائمون، فضلاً عن تنظيم المشيخة الإسلامية العليا في مقدونيا مسابقة موسعة لحفظ القرآن الكريم على مستوى البلاد، حيث يتم تكريم الفائزين ومنحهم جوائز قيمة.
ما هي الأنشطة التي تقوم بها المشيخة الإسلامية العليا في مقدونيا خلال شهر رمضان؟
أول مهمة تقوم بها المشيخة الإسلامية هي محاولة تحرِّي شهر رمضان، سواء برؤيته أو التنسيق مع المؤسسات الإسلامية في دول الجوار، أو حتى الاقتداء بتركيا في تحديد مطلع شهر رمضان، وكذلك أحرص سنويًّا على توجيه خطاب سلام في بداية الشهر الكريم لمسلمي مقدونيا وعموم الشعب، أوضِّح فيه فضائل الشهر الكريم ودعوة الإسلام للسلام واحترامه للآخر وتكريسه لقيم المودة الرحمة، وأدعو المواطنين للتعايش والتعاون فيما بينهم لخير البلاد، وكذلك تقوم المشيخة بتوزيع كتيبات تتضمن مواعيد الصيام والإفطار والقواعد الخاصة بالصيام وضرورة الحفاظ على العبادات الإسلامية، وتُقِيم المشيخة العديد من الفعاليات الدينية، مثل الندوات والمحاضرات طوال الشهر، واحتفالًا خاصًّا في ليلة السابع والعشرين من رمضان، التماسًا لليلة القدر، وبيان فضلها، وحث المسلمين على أهمية التعرض لها، بالإضافة لتنظيم المشيخة وفروعها في المدن المختلفة حفل إفطار جماعي في أيام متتالية يضم مئات الصائمين، انطلاقاً من أهمية توطيد العلاقات بين المسلمين.
هل تتلقَّون تهاني من الجهات الرسمية خلال شهر رمضان وعيد الفطر المبارك؟
نتلقى تهاني رسمية من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومن كبار المسئولين، كما توفِد الحكومة ممثلين رسميين خلال الاحتفالات الخاصة بتحري هلال رمضان والعيد، فضلاً عن تخصيص أجهزة الإعلام الرسمية برامج تليفزيونية وإذاعية للمسلمين، يقوم عليها متخصصون بشكل مكثف خلال الشهر الكريم، وكذلك تنظم المشيخة ندوات وتستجلب دعاة من خارج مقدونيا لإحياء ليالي الشهر الكريم في 590 مسجدًا تابعًا لها.
ما مدى إقبال الشباب على أنشطة المشيخة الإسلامية خلال شهر رمضان المبارك؟
هناك إقبال متنامٍ من قِبل الشباب على أنشطة المشيخة الإسلامية خلال شهر رمضان المبارك؛ حيث تتزايد أعداد الشباب الملتزمين دينيًّا على الصلاة والصيام خلال رمضان وطوال العام، ولك أن تعرف أن مقدونيا تُعد من أكثر بلاد منطقة البلقان غنًى بحفظة القرآن، لدرجة أن أعداد الحفظة حاليًا تفوق أيام الفتح العثماني.
يشتهر رمضان في العالم الإسلامي بأنه شهر توثيق الصلات وصلة الأرحام.. فما دوركم في تفعيل هذه المعاني؟
تشكِّل المشيخة الإسلامية لجنة لتوثيق الصلات بين المسلمين؛ حيث تقوم بزيارة متتالية للمساجد والأحياء ذات الأغلبية المسلمة لتوطيد الصلات وحلِّ المشكلات بين العائلات الإسلامية، وتنتهي أعمال اللجنة بالخير والإصلاح بين المتخاصمين؛ حيث تصرُّ على إقامة إفطار متبادل لممثلين من العائلتين في منازلهم، وهو ما يحمل تأثيراً إيجابيًّا على هذه العائلات في المستقبل.