مشكلة التطرف الآخذة بالاتساع في المنطقة والعالم، باتت تُعدّ، في الآونة الأخيرة، من أكثر القضايا التي تثير اهتمام النخب الفكرية والثقافية والسياسية التي تحاول فهم الظاهرة ووضع وسائل مناسبة للتعامل معها.
نمو الظاهرة وانتقالها إلى أطوار وأشكال جديدة، ربما لم تكن موجودة من قبل، يدعو إلى قراءة أكثر عمقاً، بعيداً عن الفهم السطحي، والقراءة الرغائبية للظاهرة. فكثيراً ما كانت القراءة السطحية الساذجة، سبباً في فهم الظاهرة بصورة خاطئة، وبالتالي التعامل معها بصورة خاطئة أيضاً، ما فاقم من حجم المشكلة، عوضاً عن أن يحدّ منها.
وهذه محاولة لفهم الظاهرة بأبعادها الشاملة وتشخيص المشكلة بصورتها الحقيقية، ودراسة المتغيرات والأبعاد الجديدة التي بدأت تأخذها.ليست ظاهرة جديدة
النهج المتشدد في التعامل مع الأمور، القائم على التعصب للرأي والقناعات، وعلى إلغاء الآخر ونفيه، والتعامل معه بتشدّد وحدّة فكرية أو سلوكية، ليس بالنهج الجديد، ولا يختص بفترة زمنية دون أخرى، ولا بمجموعة بشرية معينة، بل هو ظاهرة بشرية طبيعية موجودة منذ وجد الإنسان، وستظل موجودة ما دامت الحياة البشرية؛ لأنه يتعلق بطبائع البشر وميولهم ونفسياتهم.
والإقرار بأن وجود الظاهرة أمر طبيعي، ليس محاولة للتقليل من حجم المشكلة وخطرها، وإنما وضعها في سياقها الصحيح الذي يساعد على فهمها. وكونها ظاهرة طبيعية لا ينفي عنها صفة أنها ظاهرة مرضيّة لا صحيّة. وإذا كان القضاء عليها -بصورة مطلقة- مطلباً صعباً عزيز المنال، فإن الحدّ منها وتقليص أخطارها وآثارها السلبية على المجتمعات يبقى أمراً مطلوباً بصورة مستمرة.
التطرف يرتبط عادة بالانغلاق والتعصب للرأي، ورفض الآخر وكراهيته وازدرائه وتسفيه آرائه وأفكاره. والمتطرف فرداً كان أم جماعة، ينظر إلى المجتمع نظرة سلبية سوداوية، لا يؤمن بتعددية الآراء والأفكار ووجهات النظر، ويرفض الحوار مع الآخر أو التعايش معه ومع أفكاره، ولا يبدي استعداداً لتغيير آرائه وقناعاته، وقد يصل به الأمر إلى تخوين الآخرين وتكفيرهم دينياً أو سياسياً، وربما إباحة دمهم.
ويزداد خطر التطرف حين ينتقل من طور الفكر والاعتقاد والتصور النظري، إلى طور الممارسة والتطرف السلوكي، الذي يعبّر عن نفسه بأشكال مادية من أعمال قتل وتفجيرات وتصفيات واستخدام لوسائل العنف المادي المختلفة لتحقيق بعض الأهداف. وعادة ما يكون التطرف السلوكي والمادي نتيجة وانعكاساً لتطرف سابق في الفكر والقناعات والاعتقاد.
والتشدّد أو التطرّف موجود داخل كل مجتمع وحزب وجماعة، لكن بمستويات نسبية. وهذا ما يفسر التصنيفات الشائعة سياسياً لوجود أجنحة مختلفة داخل كل جماعة أو حزب، من متشددين ومعتدلين، صقور وحمائم، محافظين وإصلاحيين. وإذا فشل أي حزب أو جماعة في احتواء وجهات النظر الداخلية المتباينة، ولم تستطع هذه الأطراف التعايش مع بعضها البعض، فإن ذلك يفضي في كثير من الأحيان إلى انشقاقات وانقسامات.
الإسلام يحّذر من الظاهرة
من الخطأ الجسيم ربط التطرف بالإسلام الذي حذّر أكثر من غيره من أخطار هذه الظاهرة، ومن انعكاساتها السلبية على أصحابها وعلى مجتمعاتهم، والقراءة الواعية للنصوص الشرعية الإسلامية في القرآن الكريم والسنة النبوية، توضح بجلاء مدى إدراك الإسلام لخطورة الظاهرة، بل إن الإسلام أنكر على أتباع بعض الديانات مظاهر التطرف والتشدد في السلوك والعبادة، وانتقد القرآن الكريم أولئك الذين شدّدوا على أنفسهم في بعض الطقوس العباديّة، بقوله: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
وأطلق الإسلام على المتطرفين أوصافاً سالبة، من مثل وصفهم بـ "المتنطعين" و"المغالين"، كما وصف ظاهرة التطرف بـ "الغلوّ" و"التنطّع". والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حذّر من مصير صعب ومظلم ينتظر المتشدّدين والمتطرفين بقوله: "هلك المتنطعون"، أي المتطرفون المتشدّدون.
وقد عانت الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها – كغيرها من الأمم- من ظواهر تطرّف فرديّ وجماعيّ على حدّ سواء.. ويجدر التنبيه إلى ضرورة التفريق بين تنامي ظاهرة التطرف وبين اتساع دائرة الصحوة الإسلامية، والالتزام بالدين وزيادة مظاهر التدين الفطري في المجتمعات العربية والإسلامية. فالبعض يندفع بصورة خاطئة ودون وعي للربط بين الأمرين، الأمر الذي يؤدي إلى استنتاجات خاطئة.
التطرف لا ينحصر بالجانب الديني، فهناك أشكال مختلفة من التطرف السياسي والثقافي والاجتماعي. وإذا كان التطرف الديني في الوقت الراهن هو الأبرز في المجتمعات العربية والإسلامية كما في المجتمعات الغربية، فإن تطرفاً يسارياً ساد المنطقة العربية في فترة الستينيّات وبداية السبعينيّات، ولم يكن التطرف القومي أحسن حالاً. وغالباً ما كان أصحاب التوجهات الدينية في تلك الفترات يقعون ضحية ذلك التطرف اليساري أو القومي حين وصل اليساريون والقوميون إلى السلطة، فتعرّضت الجماعات الدينية للقمع ومصادرة الحريات والاعتقال، وفي بعض الأحيان إلى التصفية والإعدام، بعد أن صودر حقها في التعبير، بل في الوجود، ووُجهت لها الاتهامات بالرجعية والعمالة للاستعمار.
المسألة إذن ليست حكراً على تطرف ديني، فكما أن هناك تكفيراً دينياً، هناك أيضا تكفير سياسي وعلماني. ومثلما أن هناك توجهات إسلامية متطرفة ترفض الاعتراف بالآخرين وتعمل على إلغائهم، هناك في المقابل علمانية متطرفة تستخف بالدين وتتجرّأ على الثوابت الدينية، وترفض محاورة من يخالفونها الرأي، وتصنّفهم على أنهم خارجون على الصف الوطني، وتمارس بحقهم سياسة القمع والاستئصال.
وقد كان المفكر العربي محمد عابد الجابري محقاً حين أكّد أنه "في جميع الأيديولوجيات هناك دوماً موقع ما للتطرف والغلوّ". مضيفاً: "سبق لي أن قلت: إنه لو كان الزمان زمان الماركسية لكان كثير من الشباب الذين يستقطبهم اليوم التطرف الديني أو الإثني يعملون في صفوف التطرف الماركسي، وهذا سبق أن حدث".
كما أن التطرف ليس حكراً على المجتمعات العربية والإسلامية، فكل المجتمعات عانت أو تعاني من أشكال مختلفة من التطرف الديني والسياسي، سواء في الفكر والمعتقد، أو في الممارسة والسلوك. لكن لأسباب مقصودة، وبفعل ضعف العالم العربي والإسلامي، وسيطرة الآخرين على وسائل الإعلام وأدوات التوجيه القادرة على تشكيل القناعات، تم التركيز على ما يُسمّى "بالتطرف الإسلامي"، في محاولة لإلصاق تهمة الإرهاب بالمجتمعات الإسلامية وبالإسلام ذاته.
وما هو مؤسف أن الإعلام العالمي يسلط الأضواء على كل صغيرة وكبيرة من الممارسات المتشدّدة والمتطرفة في العالم العربي والإسلامي، وفي ذات الوقت يُغضّ الطرف عن الإرهاب والتطرف الديني والسياسي الذي يجتاح المجتمع الإسرائيلي، وأدى إلى سيطرة المتطرفين الإسرائيليين على أغلبية مقاعد الكنيست الإسرائيلي، وكان اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين أحد تعبيراته السلوكية. كذلك يتم تجاهل كثير من مظاهر التطرف التي بدأت تجتاح عدداً من الدول الغربية التي نجحت فيها أفكار وأحزاب سياسية متطرفة في زيادة رقعة حضورها الشعبي وتأثيرها السياسي، بل إن المحافظين الجدد الذين ينطلقون من قناعات ونبوءات دينية متطرفة باتوا يسيطرون على السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لأفكار اليمين المحافظ ومؤيديه دور حاسم في التجديد للرئيس بوش لولاية انتخابية ثانية.
أسباب تنامي ظاهرة التطرف في المجتمعات العربية
تنشأ ظاهرة التطرف في العادة نتيجة جملة عوامل متشابكة، وليس نتيجة عامل واحد. وقد لوحظ عند تشخيص كثير من الغربيين لظاهرة التطرف في المجتمعات العربية والإسلامية، مبالغة دراساتهم في التركيز على أربعة عوامل أساسية من وجهة نظرهم هي:
1-الفقر.
2-الجهل والأميّة.
3-مناهج التعليم "المتشدّدة" التي تؤدي إلى تخريج أفراد مشبعين بأفكار متطرفة خاصة ما يتعلق بالدراسات الدينية.
4- وجود أنظمة حكم متطرفة تمارس العنف وترعى بعض الجماعات المتطرفة.
ومن أجل فهم الظاهرة وتشخيصها بصورة صحيحة أكثر عمقاً، يمكن تقسيم الدوافع التي تؤدي إلى تطور مظاهر التطرف الفكري والسلوكي ونموها في المجتمعات العربية والإسلامية إلى قسمين:
- عوامل ذاتية من داخل هذه المجتمعات.
- وعوامل خارجية.
العوامل الداخلية
أولاً: عوامل دينية، وفي مقدمتها:
1- ضعف الوعي، والفهم الخاطئ لبعض المفاهيم الشرعية، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآليات تنفيذ ذلك المسموح والممنوع في التطبيق.
2- ضعف مؤسسات التوجيه الديني الرسمية في الدول العربية، وعدم استقلالية هذه المؤسسات، وتبعيتها المطلقة للسلطة السياسية، وخضوعها الكامل لمواقفها وتوجهاتها، بل ومبالغتها في الدفاع عن كافة سياسات السلطة وتوجهاتها. ما أفقدها ثقة المواطن، وجعلها غير مؤثرة في التوجيه والتوعية والترشيد.
3- القناعة لدى قطاعات شعبية وسياسية بأن كثيراً من الحكومات العربية بعيدة عن التزام أحكام الشريعة الإسلامية، وأنها تعمل على تغييب أحكام الدين عن واقع الحياة، وهو ما أوجد دافعاً لدى البعض للتسرع في إصدار أحكام بتكفير هذه الحكومات، وإلى اتخاذ مواقف متشددة إزاء العمل السياسي والممارسة السياسية.
4- تنامي ظاهرة الصحوة الدينية والتدين الفطري العام في العالم العربي، وفّر فرصة للجميع للاستفادة منها. ولا شك أن بعض الأفكار المتطرفة استفادت من هذا الإقبال على التديّن في كسب مزيد من المؤيدين لأفكارها، في ظل ضعف عملية الترشيد والتوجيه لهذه الصحوة.
5- محاربة الحكومات للتوجيه الديني غير الرسمي، ووضعها لكافة الحركات الإسلامية، المتشددة منها والمعتدلة، في سلة واحدة. وهو ما أضعف قدرة هذه الحركات على الإسهام بدورها في مواجهة بعض مظاهر التطرف التي باتت تشكل خطراً على الجميع. ولا شك أن عدم تمييز الرسميين بين توجهات معتدلة وأخرى متطرفة، أتاح فرصة مهمة لتوجهات التشدّد لتعزيز حضورها، كما أنه أوجد قناعة لدى قطاعات شعبية واسعة بأن تلك الحكومات تقف موقفاً سلبياً ضد كل ما هو ديني، سواء اتسم بالتشدد أو الاعتدال. ونتيجة هذه القناعة السلبية عن تلك الحكومات لدى شعوبها، بدأت تنظر إليها على أنها تقف ضد الدين ذاته لا ضد توجهات دينية معينة، كما أن المساواة بين المتشددين والمعتدلين ومعاملتهم جميعاً كمتطرفين ومتآمرين وخارجين على القانون، قد يحوّل بالنتيجة بعض المجموعات المعتدلة إلى مجموعات متطرفة ما دامت تشعر بأنها مستهدفة أيا كانت توجهاتها.
6-المبالغة في الاستخفاف بالدين وبالمقدسات الدينية، وفرض توجهات فكرية علمانية من قبل بعض الجهات الرسمية، يشكل نوعاً من الاستفزاز، ويؤدي إلى ردة فعل معاكسة نحو المزيد من التشدّد.
ثانياً: عوامل سياسية، منها:
1- التفرد بالسلطة وعدم تداولها، وغياب الحرية والديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية، وانسداد أفق التغيير السلمي أمام الحركات والأحزاب السياسية، تسبب بحالة إحباط ويأس – لدى البعض - من إمكانية حدوث إصلاح سياسي ضمن الأطر والأنظمة السياسية القائمة أو عبر الوسائل السلمية، ودفع إلى اللجوء للعنف كسبيل وحيد متاح للتغيير والإصلاح. في هذا السياق يرى الدكتور الجابري أن "من أسباب ظهور التطرف سواء باسم الإسلام أو العرق أو باسم الطائفة أو باسم أي أيديولوجية ما، هو أولاً وقبل كل شيء غياب الديمقراطية، إضافة إلى الظروف الاجتماعية الاقتصادية". ويضيف: "عندما يمارس الإقصاء على هذه الفئة أو تلك يكون رد الفعل هو التطرف".
2- كثيراً ما يكون التطرف الديني أو السياسي من قبل الأفراد والجماعات، ردّ فعل على تطرف فكريّ أو سلوكيّ تمارسه السلطة حين ترفض الحوار مع الآخر وتصرّ على مواجهته بالعنف والقمع فقط.
بعض السلطات العربية لجأت إلى تشويه صورة خصومها ومعارضيها السياسيين، وتتهمهم بالتطرف لتحقيق مكاسب سياسية في معركتها معهم، ولتعطي لنفسها مبرراً للتعامل معهم بقبضة حديدية. وعند النظر إلى مصر والجزائر كحالتين للدول التي عانت ظاهرة العنف والتطرف، يُلاحظ أن القمع الذي استخدمته السلطة ضد المجموعات الإسلامية المعتدلة أدّى إلى تحويل بعض تيارات تلك المجموعات إلى التطرف. فجماعة التكفير والهجرة في مصر نشأت داخل السجون المصرية نتيجة ما لقيه أفرادها من قمع وتعذيب شديدين جعلهم يتحوّلون من مجرد ناشطين عاديين في صفوف جماعة الإخوان المسلمين إلى أفراد يتبنّون أفكار التكفير. والملاحظ أن السلطات العربية بدل أن تستخلص الدروس والعبر من تجاربها الخاطئة، تلجأ إلى استغلال ما حصل سابقاً لتوجيه الاتهام لجماعة الإخوان بأن جماعات التطرف والتكفير خرجت من تحت عباءتها، وبأنها تشكل محضناً لتفريخ العنف والتطرف.
3- نظرة بعض القطاعات إلى بعض الحكومات العربية والإسلامية على أنها غير وطنية وعميلة ومرتبطة بقوى معادية للأمة، دفع تلك القطاعات إلى القناعة بعدم جدوى الحوار مع تلك الحكومات، وبأن استخدام العنف هو الخيار الوحيد المجدي للتعامل معها.
4- توقيع اتفاقيات ومعاهدات تسوية بين أطراف عربية رسمية وبين (إسرائيل)، أوجد حالة غضب شعبي تجاه الحكومات المؤيدة لتلك الاتفاقيات التي تنظر إليها أغلبية شعبية على أنها ظالمة ومجحفة بالحقوق الفلسطينية والعربية، وأنها تمت بفعل ضغوط خارجية شديدة خدمة للمصالح الإسرائيلية.
ثالثاً: عوامل اجتماعية واقتصادية:
1- الفقر والتفاوت الاجتماعي، وشعور بعض الشرائح بالظلم وغياب العدالة، يؤدي إلى توليد حالات نقمة وإحباط تشكل مرتعاً خصباً لنشوء توجهات متطرفة ليست متعلقة بالضرورة ببعد ديني.
2- التطرف في الانحلال الأخلاقي، والسكوت الرسمي على المظاهر الصارخة للفساد الخلقي، بل وربما تشجيعه بمبرر الانفتاح، يولّد ردّات فعل مضادّة عند مواطنين عاديين وأصحاب توجهات وقناعات دينية. ويمكن القول: إن التطرف اللاديني (العلماني) قد يؤدي إلى تصاعد تطرف ديني مقابل.
رابعاً: عوامل نفسيّة:
وهي تنجم في العادة عن جملة العوامل السابقة؛ فالتوجه للعنف الفكري والسلوكي يكون في العادة ناتجاً عن إحباط سياسي، بسبب اليأس من القدرة على التغيير السياسي والتمتع بالحريات في التعبير والقول والممارسة، ويكون ناتجاً كذلك عن إحباط اجتماعي واقتصادي من إمكانية تحسين الوضع القائم نتيجة اختلالات اجتماعية واقتصادية كبيرة. وربما يكون الإحباط ناجماً كذلك عن الواقع الذي تعيشه الأمة من حيث الضعف والضربات المتلاحقة التي تُوجّه لها دون أن يكون لها حول أو قوة على المواجهة.
عوامل خارجية
1- أحداث 11 سبتمبر وإعلان أمريكا حرباً شاملة ضد الإرهاب، وما تبعها من ممارسات متشددة ضد الأقليات الإسلامية في عدد من المجتمعات الغربية، والنظرة السلبية إلى المنطقة العربية والإسلامية على أنها مصدر الشرّ والإرهاب في العالم، وتولّد قناعة لدى قطاعات شعبية واسعة في العالم العربي والإسلامي بأن الولايات المتحدة تشنّ حرباً عسكرية وسياسية وثقافية ضد الأمة العربية والإسلامية تهدف إلى السيطرة على المنطقة واستغلال ثرواتها وإعادة رسم خريطتها السياسية والجغرافية وفق الرغبات الأمريكية، إضافة إلى الضغوط القوية على الدول العربية والإسلامية لمحاصرة الجمعيات الخيرية وإدخال تغييرات جوهرية على مناهج التعليم. كل ذلك تسبب بردة فعل سالبة لدى الشعوب العربية والإسلامية والقوى السياسية في المنطقة التي بدأت تلجأ إلى التشدد في الدفاع عن الذات.
2- الاحتلال الأمريكي للعراق ساهم بشكل كبير في تأجيج مشاعر العداء والكراهية في العالم العربي ضد الولايات المتحدة وضد كثير من الأطراف الغربية، ووفّر أرضية مناسبة لكثير من الطروحات المتشددة التي لقيت رواجاً في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأمريكي الجديد للعراق.
3- بروز مقولات ونظريات الصراع الحضاري والثقافي في الغرب، وترويج أوساط غربية أن الإسلام هو العدو الجديد والخطر الداهم الذي يتهدد الحضارة الغربية، أثار كثيراً من الأوساط العربية والإسلامية ودفعها إلى تبني مقولات مقابلة تقوم على أساس الخوف الثقافي والحضاري. وزاد من حجم المشكلة أن الأمر لم يعد يقتصر على طرح نظريات الصدام والصراع الحضاري بين الحضارة الغربية والحضارة العربية والإسلامية، من قبل مفكرين مثل هنتنغتون وفوكاياما، بل تعداه إلى تصريحات تحريضية صدرت عن سياسيين معروفين كنيكسون وتاتشر والعديد من السياسيين الغربيين خلال الأعوام الأخيرة.
4- تنامي نفوذ المحافظين الجدد، ونجاحهم في الوصول إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وهيمنة البرامج والأجندات الدينية المتشددة لهذا التيار على أفكار وسلوكيات الإدارة الأمريكية، وتشكّل قناعة واسعة في المجتمعات العربية والإسلامية بأن الحرب التي تشنها الإدارة الأمريكية الحالية لمحاربة الإرهاب ما هي في حقيقتها إلا حرب دينية صليبية ضد الإسلام والأمة الإسلامية، وكان له تأثير بالغ في تأجيج مشاعر التشدّد تجاه الولايات المتحدة.
5- تنامي التطرف الديني والسياسي في المجتمع الإسرائيلي، وانسداد الأفق السياسي لفترة طويلة، وزيادة حجم الاعتداءات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في ظل الانتفاضة، وانحياز الولايات المتحدة وغالبية الأطراف الغربية لصالح الجانب الإسرائيلي، وبحثهم عن حجج وذرائع لتبرير جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، شكّل عاملاً آخر في تعزيز حالة الاحتقان النفسي لدى كثير من العرب والمسلمين.
6- مبالغة المجتمعات العربية والإسلامية في الخوف من أخطار وانعكاسات العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تم النظر إليها كسلعة غربية يجري تصديرها إلى العالم الإسلامي، وخشية أوساط إسلامية من أن تؤدي عملية الانفتاح وفتح الحدود وإزالة الحواجز السياسية والثقافية في ظل التفوق والهيمنة الغربيتين، إلى اختراق الثقافة والقيم والعادات الغربية للمنطقة على حساب ثقافتها وهويتها الحضارية، مما دفع إلى تنامي بعض دعوات الانغلاق والتشدد وإغلاق الحدود والمنافذ لاتقاء شرور العولمة العابرة للحدود.
هذه العوامل، إضافة إلى الاحتقانات السياسية والثقافية والنفسية التي تمرّ بها المنطقة، وما ينطوي عليه واقع الأمة العربية من كثير من مظاهر الضعف والعجز والتمزق، أدى إلى توفير أجواء مواتية لتنامي نزعات التشدد والتطرف، ولكن بشكل جديد؛ إذ باتت الظاهرة تشمل المجتمعات ولا تقتصر على الأفراد والجماعات والحركات. وهذه –بالتأكيد- حالة أكثر خطورة من حالات التطرف التقليدي التي كانت موجودة سابقاً. ويساهم في تعزيزها توفر مزاج ومناخ عام يمكن أن تترعرع في ظله توجهات التشدد والعنف بأشكالها المتعددة، الفردية والجماعية، وتشدد المجتمعات كرد فعل على الشعور بالاستهداف.
مقترحات للتعامل مع المشكلة
ما لم يتم استيعاب المتغيرات الجديدة التي طرأت على ظاهرة التطرف في المنطقة والعالم، وما لم تتم مواجهتها بكثير من الحكمة والعقلانية، بعد الفهم العميق للظاهرة، فإن من الممكن ارتكاب أخطاء إضافية تؤدي إلى زيادة حجم المشكلة لا الحدّ منها. فلم يعد ممكناً مواجهة ظواهر التطرف والتشدد والإحباط، بذات الوسائل القديمة التي كان البعض يصرّ على اللجوء، إليها وأثبتت التجربة العملية فشلها.
لا بدّ هنا من التوقف عند نقطتين هامتين:
الأولى: عند العمل على معالجة المشكلة ضرورة التمييز بين التعامل مع التطرف في إطاره الفكري الذي يقتصر على الأفكار والقناعات والتوجهات، وبين التطرف الذي انتقل إلى دائرة الممارسة المادية السلوكية العنفية. فالأساليب المجدية في التعامل مع النوع الأول، لا تجدي بالضرورة في التعامل مع النوع الثاني. وما هو ضروري للتعامل مع الشكل الثاني قد لا يكون ضرورياً للتعامل مع الشكل الأول.
الثانية: جرت العادة على مواجهة ظاهرة التطرف بأحد أسلوبين:
1- الأسلوب الأمني البوليسي: وهو المفضل لدى غالبية الأجهزة الرسمية والمؤسسات الأمنية العربية والإسلامية.
2- الأسلوب السياسي والفكري: عن طريق الاستيعاب، وفتح قنوات الحوار، لإقناع من يحمل فكراً متطرفاً بأن أبواب التأثير والإصلاح بالطرق السلمية بعيداً عن العنف وإراقة الدماء، متيسرة أمامه وليست مغلقة.
ولوحظ أن غالبية الدول التي اقتصرت على التعامل بالأسلوب الأول، لم تنجح بعد سنوات طويلة من المواجهة، في الوصول إلى هدفها بإضعاف التوجهات المتطرفة، وكانت النتيجة مؤلمة للطرفين، للسلطة وللمجموعات المتطرفة، وغالباً ما دفع المجتمع الثمن غالياً من دماء أبنائه ومن اقتصاده واستقراره نتيجة هذه المواجهة العقيمة.
وهنا بعض المقترحات لمواجهة المشكلة:
1- إنهاء حالة التفرد السياسي الذي تمارسه كثير من الحكومات والأنظمة، والتوقف عن سياسة القمع وتكميم الأفواه، والتوجه لفتح أبواب الحريات المسؤولة في كافة الجوانب. وإذا كانت بعض الأطراف الخارجية تتحدث عن الإصلاح السياسي كضرورة تخدم مصالحها، فإن مصلحة الأمة وشعوبها، بل وحتى حكوماتها، أن تباشر عملية إصلاح ذاتية حقيقية، وأن تقنع الجميع بأن إمكانية التغيير والإصلاح بالوسائل السلمية متاحة. وأي تأخير في ذلك يسهم في زيادة حالة الإحباط السائدة.
2- معالجة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، وتقليص الفجوة الآخذة بالاتساع بين أغلبية مقهورة ومسحوقة في المجتمعات العربية، وبين أقلية متنفذة تسيطر على الثروات والمقدّرات والمداخيل. لا سيما أن قناعة تسود لدى أوساط شعبية واسعة بأن الفساد واستغلال المناصب والمواقع للإثراء غير المشروع هي التي تقف وراء ما تتمتع به نخبة مهيمنة محدودة من مكتسبات.
3- إعطاء استقلالية حقيقية لمؤسسات التوجيه الديني، والتوقف عن توظيفها كأداة لحشد التأييد لتوجهات السلطة السياسية، كي تكون قادرة على ممارسة دورها بفاعلية في التوعية والتثقف الديني والتصدي لبعض مظاهر الفهم الخاطئ للإسلام.
4- التوقف عن وضع جميع الحركات الإسلامية في كفة واحدة ومناصبتها جميعها العداء بشكل أعمى، ودون وعي أو تمييز، وإدراك أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الحركات الواعية في مواجهة الفهم الخاطئ.
5- الحذر من دعم مظاهر "التطرف العلماني" في مواجهة "التطرف الديني"، فكلا التطرفين نتائجه خطيرة على المجتمعات العربية والإسلامية، وتنامي الواحد يستفز الآخر ويعمل على تفعيله.
6- إنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، وتعامل الأطراف الغربية- لا سيما الولايات المتحدة- بصورة أكثر عدلاً مع الصراع العربي الإسرائيلي، يسهم في التخفيف من حالة الغضب التي تجتاح الشارع العربي وتؤدي إلى إيجاد حالات من التشدد كردة فعل متوقعة لما تتعرض له بعض الدول العربية من انتهاك لسيادتها.
7- وقف التصريحات المعادية للإسلام والمسلمين في الغرب، سواء من قبل بعض وسائل الإعلام، أو بعض النخب السياسية والفكرية والدينية، لأن من شأن هذه التصريحات العدائية أن تستفز غضب العرب والمسلمين، وتولّد مشاعر غضب شديدة.
* * * * * * *
خلاصة القول: إن التطرف رد فعل على تطرف آخر. فالعنف لا يولّد إلا عنفاً مضاداً، وسرعان ما يتحول الأمر إلى حلقة مفرغة لا نهاية لها. وما لم تتم معالجة الأسباب التي تشكل أرضاً خصبة لانتشار الأفكار المتشددة في العالم العربي الغربي، فإن أي معالجات أمنية ستكون قاصرة عن مواجهة الظاهرة، بل قد تشكّل سبباً إضافياً لتناميها. ومن الأهمية بمكان أن تدرك كل الأطراف الطور الجديد الذي تمرّ به ظاهرة التطرف في ظل المعطيات القائمة.
* رئيس تحرير صحيفة (السبيل) الأردنيّة