من الطريف أن صياغة هذه الكلمات تمت على أرض البوسنة والهرسك، وفي الوقت الذي يستعيد فيه المسلمون في ذاكرتهم مجزرة (سربنتسا) التي راح ضحيتها أكثر من سبعة آلاف دفنوا في مقابر جماعية، ولم تغنهم حماية الأمم المتحدة شيئاً، وهي التي كانت تحرمهم من السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم.
والجدير بالمسلمين في العالم أن يصعدوا الحديث عن هذه المأساة دوليًّا وإعلاميًّا، ليفيق العالم على معاناتهم، ولتتحول مجازر البوسنة إلى هولوكوست إسلامية يجرَّم من ينكرها، وتعترف الدول ولو متأخراً بالإهمال والتجاهل لها، والتسبب في حدوثها بعدم التدخل، وعدم رفع حظر الأسلحة عن المسلمين.
وقد كتب الراحل علي عزت رحمه الله في سيرته الذاتية طرفاً من المعاناة الصعبة للشعب البوسني المسلم في محاولته تكوين الدولة، والآلام التي تعرض لها، والدماء التي نزفها وسط تجاهل دولي، وعجز إسلامي، وتواطؤ إقليمي.
وكان أفضل ما يقدم لهم المجتمع الدولي اتفاقية دايتون التي أنهت وضع الحرب، ولكنها لم تنصف المسلمين.
إن الهدوء الذي يعيشه البلد بإثنياته وأعراقه يؤكد على أهمية السلام للبناء والدعوة، والحرب التي خاضها تؤكد على ضرورة الحرب أحياناً، وكان د. علي عزت رحمه الله يقول: تعلمت أن صياغة السلام تحتاج إلى الشجاعة أكثر مما تحتاج إليها الحرب!
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً، وإن تلقه بالشر ينحسم
الحرب جزء من شريعة الإسلام، والغريب أن الاستعمال القرآني قلما يستخدم كلمة (حرب) التي تدل على الفعل، وإنما يستخدم لفظ (القتال) الذي يدل على التفاعل بين طرفين، وكأن ذلك إشارة إلى أن الصراع العسكري هو نتيجة عدوان من طرف على آخر، أو نتيجة عدم الاتفاق على السلام.
وقد ذكر لفظ القتال في القرآن الكريم بلفظ القتال ثماني مرات ، والقتال غير القتل، فهو بمعنى الصراع أو التدافع، وهو بشروطه الشرعية أحد معاني الجهاد ، وقد يُستخرج من هذا أن الإسلام يتحدث عن الصراع باعتباره حقيقة واقعة ، أكثر مما يتحدث عنه باعتباره مطلباً يتوجب على المسلم التحضير له واستعجاله .
وحين قال النبي صلى الله عليه وسلم:"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" فإن الأمر يحتمل معنى الجهاد العام! ويحتمل معنى القتال، على ما ذكره أهل الفقه. الحديث خرجه الترمذي ، وابن ماجة.
والإسلام لا يتنكر للواقع، ولا يتجاهل الدوافع العدوانية لدى المجموعات المختلفة، وهو في الوقت الذي يحجز المسلمين عن العدوان، فإنه يمنحهم الحق في مقاومة ذلك العدوان، وأحكم آية في هذا السياق هي قوله تعالى:" وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ " [البقرة:190].
فالإذن بالقتال هو في مواجهة الذين يقاتلوننا، يعني بدؤونا بالقتال فعلاً، أو هم يتهيؤون لذلك، فهم مقاتلون بالفعل أو بالقوة، وهم معنا في حالة حرب أو محاربة.
وسمى الله ما زاد على ذلك (عدواناً)، وعقب بقوله:"إن الله لا يحب المعتدين" وهذا نهي وتحريم لما زاد على ذلك، ووصف له بالعدوان، وبيان لعقوبته، وأن الله لا يحبه ولا يحب فاعليه.
ومثل هذا الحكم والقول لا يعتريه النسخ، فإن نفي محبة الله ثابت، والوصف بالعدوان قائم، فهي شريعة محكمة لا تنسخ، ومن الخطأ الظن بأن هذا حكم مرهون بمرحلة ما، أو منسوخ بحكم آخر، أو موقوف على حالة الضعف وعدم الاستطاعة.
وثمت حديث في القرآن مرتبط بمرحلة تاريخية ، وبوضع محدد كما في سورة التوبة : (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ..)(التوبة: من الآية13)
إن الحرب جزء لا يتجزأ من تاريخ البشرية، ولكل الشعوب، ولا تزال الشعوب المستضعفة والعاجزة عن الدفاع عن نفسها في العالم الإسلامي وفي غيره تعاني ويلات الحروب المفروضة عليها من قوى الطغيان والاستكبار العالمية.
والإسلام يعترف بسنة المدافعة في الحياة " وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ" [البقرة:251]، ولكنه لا يدعو إلى استخدام العنف في التغيير والإصلاح إلا عند تعذر الوسائل السلمية ورجحان مصلحة القتال، كما قال سبحانه في شأن الاختلاف بين المسلمين " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.." [الحجرات:9].
وحتى مع الكفار فالكفر ليس سبباً للقتل أو القتال، ولا موجباً له عند الفقهاء، وفي محكم التنـزيل " وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.." [التوبة:6] فأمرنا بجوار المشرك ودعوته، ثم إيصاله إلى المكان الذي يأمن فيه، وعلل بقوله " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ" [التوبة:6] ، فالمهمة الربانية إذاً هي التعليم لمن لا يعلمون ، والدعوة لهم لعلهم يهتدون ، والوصف هنا بأنهم لا يعلمون عائد إلى المشركين ، وقد علل الأمر بإجارتهم وإبلاغهم مكان أمانهم بأنهم لا يعلمون ، وأمر برفع الجهل عنهم بقوله : (يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)(التوبة: من الآية6) ، فاستبقاء غير المسلم له مصالح ومقاصد منها دعوته وهدايته ، والله بعث رسله هداةً ولم يبعثهم قساة ولا جباه .
والكافر قد يكون ذميًّا أو معاهداً أو مستأمناً أو غير ذلك، وهو محل للدعوة والمجادلة بالحسنى، وقد يكون جاهلاً يحتاج إلى تعليم، أو ملهوفاً يحتاج إلى غوث "وفي كل كبد رطبة أجر"، فمسوغ القتال ليس هو الكفر، ولكنه العدوان، فإذا صدر العدوان والبغي من طائفة مؤمنة قوتلت كما في سورة الحجرات، وإذا صدر العدوان من كافر قوتل كما في آية البقرة السابقة " وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ " [البقرة:190].
إن الإسلام ليس ديناً روحانياً فحسب، بل هو جاء بالوحي وجاء بالقوة، وقد جمع بينهما سبحانه فقال:" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ" [الحديد: من الآية 25] وهذه هي الحجج والمعارف والعلوم والدعوة والمجادلة بالحسنى "وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد:من الآية 25] وهذا هو العدل الرباني مع البر والفاجر والمؤمن والكافر والعدو والصديق " وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" [الحديد:من الآية 25] وهذه هي القوة في ردع المعتدين وحماية جناب الدين.
وما يزعمه بعض المستشرقين من أن الإسلام انتشر بالسيف فهو ادعاء موهوم لا تسنده حقائق التاريخ، وها هو الحكم الإسلامي قد انحسر، وظلت البلاد التي دانت له وفية قائمة بدينها على الرغم من حملات الإبادة والمسخ والتنصير، كما تشهد بذلك شبه جزيرة البلقان وألبانيا وجمهوريات آسيا الوسطى وأفريقيا وسواها.
وما يظنه بعض المسلمين من ذلك فهو خطأ يضاهئون فيه قول المستشرقين، كما قال أحدهم:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجَب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وهذا خطأ، فأصل الاستجابة كانت بمكة، والسابقون الأولون كانوا هناك، وهم أعمدة النصرة وقوام الملة رضي الله عنهم وأرضاهم.
والذين يريدون إلغاء مبدأ القتال والمقاومة في الإسلام يريدون أن تكون الأمة بلا أسوار ولا حصون ولا حماية، وهيهات ذلك.
لقد ضعف المسلمون سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ولكن روح التضحية والاستشهاد ظلت حيَّة فاعلة في مواجهة كيد المعتدين من الغزاة والمحتلين والطامعين، وما عصور الاستعمار وحروب التحرير عنا ببعيد.